Abstract
على الرغم من المحاولات الحثيثة أو المستمرة، في الفكر الغربي، كما في الفكر العربي، للتمييز بين النقد والانتقاد، ولتأكيد إيجابية النقد، لا سلبيته، ما زال الخلط أو اللبس بين النقد والانتقاد قائمًا وبارزًا، في كثيرٍ من الأحيان، حتى في بعض النصوص التي تتضمن محاولة القيام هذا التمييز¬، ولا زالت النظرة السلبية إلى النقد طاغيةً أو حاضرةً بقوةٍ، لدرجةٍ سمحت لفيصل دراج بالقول: «النقد في زماننا شبهة، ممارسة مشبوهة، فعل سيء الصيت.» وقبل مناقشة هذه النظرة السلبية للنقد، وربطها بالفكر النقدي عند العظم، لا بد من التأكيد أن الخلط أو الالتباس بين النقد والانتقاد ليس قائمًا في اللغة العربية والفكر العربي فحسب، بل هو موجودٌ وبقوةٍ في اللغات الأجنبية (الإنكليزية والفرنسية والألمانية) والفكر الغربي عمومًا.
وإذا عدنا إلى "معجم اللغة العربية المعاصرة"، نجد في مادة "ن ق د": «نقد الشيء: بيَّن حسنه ورديئه، أظهر عيوبه ومحاسنه [...].» هنا يبدو أن النقد يتناول السلبيات والإيجابيات، لكن سرعان ما نجد: «نقَد الناس: أظهر ما بهم من عيوب [...].» هنا يصبح النقد مختصًّا بما هو سلبيٌّ فقط. والأمر ذاته نجده في شرح فعل "انتقد" والكلمات المرتبطة به اشتقاقيًّا (انتقاد، انتقادي ...إلخ): «انتقد الكتاب وغيره: أظهر عيوبه ومحاسنه، [...]. انتقد سلوك صديقه: استنكره وأبدى رأيًا شاجبًا له [...]. أسلوب انتقادي: يتميز بحدة النقد وإظهار المساوئ دون الالتفات إلى نقاط القوة.» فتارةً يتجسَّد الانتقاد في "إظهار العيوب والمحاسن"، وتارةً أخرى يتمثَّل في "إظهار المساوئ" فقط.
والالتباس ذاته تقريبًا موجودٌ في المصطلحات أو المفردات الإنكليزية والفرنسية والألمانية المعبرة عن النقد و/أو الانتقاد، ومعظم ترجماتها العربية. فإذا قبلنا التمييز الشائع بين مفردتي "critique" و"criticism" الإنكليزيتين (وسنقتصر هنا على وضع المقابل الإنكليزي، مع الإشارة إلى انطباق هذا التحليل اللغوي، انطباقًا كاملًا تقريبًا، على اللغتين الفرنسية والألمانية) على أساس أن الأولى تعني النقد (بمعنى إظهار الإيجابيات والسلبيات)، والثانية تعني الانتقاد (الاقتصار على إظهار السلبيات)، فإن هذا التمييز – الذي يستسهل بعض الكتَّاب( ) تبسيطه وإخفاء إشكاليته، أو يوحون، قصدًا أو عن غير قصدٍ، بوجود هذه البساطة – يتداعى إلى حدٍّ كبيرٍ، إذا أخذنا بعين الاعتبار، ليس فقط السيرورة التاريخية لنشوء واستخدام هذين المصطلحين( )، وإنما أيضًا دلالاتهما المتداخلة حاليًّا (من المعلوم أن "criticism"( ) تعني أيضًا النقد المختص أو "النقد الأدبي")، وإحالتهما، في اللغات الإنكليزية والفرنسية والألمانية، إلى فعلٍ واحدٍ "criticize أو criticise"، للتعبير عن فعلي "نَقَدَ" و"انتَقد" في اللغة العربية، وإلى صفةٍ واحدةٍ "critical"، للإشارة إلى ما هو "نقدي" و"انتقادي"، وإلى فاعلٍ، أو اسم فاعلٍ، واحدٍ "critic"، للإشارة إلى "الناقد" و"المنتقد".
كيف تعامل العظم - وهو المتقن للغات الأجنبية الثلاث المذكورة آنفًا - مع هذا التداخل الدلالي بين النقد والانتقاد؟ وإلى أيّ حدٍّ، وبأيّ معنىً، اتخذ، أو لم يتَّخذ، النقد عنده طابعًا أحاديًّا، من خلال الاقتصار على السلبيات فقط، أو على الإيجابيات فقط؟ وهل يمكن للتركيز على السلبيات، وإهمال الإيجابيات، أن يكون إيجابيًّا، أو ألا يكون سلبيًّا في المحصلة، على ما في ذلك من مفارقةٍ أو تناقضٍ ظاهريٍّ؟ إنَّ الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها يستلزم التحديد الدقيق والمتعدد المستويات أو الأبعاد، في الوقت نفسه، لمعاني كلٍّ من "النقد" و"الانتقاد" و"الإيجابي" و"السلبي"، إلخ. ويمكن لتعدد التحديدات أو التعريفات أن يسمح بإجابةٍ مركبةٍ وغنيةٍ متعددة المستويات عن هذه الأسئلة السابقة وما يماثلها، بحيث يكون النقد، على سبيل المثال، عند العظم، سلبيًّا على مستوىً أو أكثر، وإيجابيًّا على مستوىً أخر أو أكثر. وهذه الإجابات التي تأخذ شكل "نعم ولا" هو الأقرب إلى ما يمكن أن نسميه ﺒـ "الإجابة الفلسفية"، وهي في كل الأحوال، ليست غريبةً على الفلسفة، كما يؤكِّد العظم.
ولتوضيح مدى سلبية و/أو إيجابية النقد عند العظم، ومعنى أو معاني هذه السلبية و/أو الإيجابية، عمومًا، والعلاقة بين بعض صيغ النقد و/أو الانتقاد خصوصًا، سنستند إلى أربعة معايير مختلفةٍ أو متمايزةٍ نسبيًّا: التسويغ أو عدم التسويغ، المحايثة أو المفارقة، التركيز المتوازن على السلبيات والإيجابيات معًا، أم التركيز على السلبيات أو الإيجابيات فقط، وجود أو عدم وجود غرض أو هدف إيجابي. إن المحاكمات أو التقييمات التي تتسم بأنها مسوَّغة، و/أو محايثة، و/أو تركز، تركيزً "متوازنًا، على السلبيات والإيجابيات، و/أو التي تستهدف تحقيق أمر إيجابيٍّ، هي أقرب إلى ما يمكن تسميته، في هذا السياق، بالنقد؛ أما المحاكمات أو التقييمات التي تتسم بأنها غير مسوَّغةٍ، و/أو مفارقةٌ أو خارجيةٌ أو غير محايثةٍ، و/أو تقتصر على التركيز على السلبيات، و/أو لا تستهدف تحقيق أمرٍ إيجابيٍّ، فهي أقرب إلى ما يمكن تسميته، في هذا السياق، بالانتقاد. ومن الواضح أنه، واستنادًا إلى كل المعايير المذكورة، يكون النقد إيجابيًّا، أو أقرب إلى ما هو إيجابيٌّ، مقارنةً بالانتقاد الذي يكون سلبيًّا أو أقرب إلى ما هو سلبيٌّ. لكن تغير معاني السلبي والإيجابي أو "ماصدقاته"، يسمح لنا بزحزحة إشكالية العلاقة بينها (بين قيم السلب والإيجاب ومعانيها) بما يساعدنا على إبراز إيجابية ما نعدُّه، من منظورٍ آخر، سلبيًّا، وإبراز سلبية ما نعده، من منظورٍ آخر، إيجابيًّا. ويبقى أن نلفت الانتباه إلى أن محاولة التمييز بين مفهومي أو فكرتي النقد والانتقاد لا تهدف، ولا ينبغي أن تهدف، إلى الفصل الحاد أو الكامل بينهما؛ إذ يمكن النظر إلى بعض (وربما كل) صيغ الانتقاد على أنها مجرد أنواعٍ متميِّزةٍ من النقد، بوصفه حكمًا تقييميًّا في خصوص موضوعٍ ما.